فصل: تفسير الآيات (63- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (63- 66):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا} هو في محل نصب بعامل مقدر، هو: اذكروا، كما تقدم غير مرة.
وقد تقدّم تفسير الميثاق، والمراد: أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة، وبما هو أعم من ذلك، أو أخص. والطور: اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة فيه. وقيل: هو: اسم لكل جبل بالسريانية.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم: اسم خذوها، والتزموها. فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فُصعِقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، والتزموها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتُوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم خذوها، وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق. قال ابن جرير عن بعض العلماء: لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان، لا أنهم آمنوا كرهاً، وقلوبهم غير مطمئنة. انتهى. وهذا تكلُّف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا، أو أشد منه، ونحن نقول: أكرههم الله على الإيمان، فآمنوا مكرهين، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام، والسيف مصلت قد هزَّه حامله على رأسه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية، ولم تكن عن قصد صحيح: «أأنت فتشت عن قلبه» وقال: «لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» وقوله: {خُذُواْ} أي: وقلنا لهم: {خذوا مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} والقوّة: الجدّ والاجتهاد. والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به. قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أصل التولي: الإدبار عن الشيء، والإعراض بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، والمراد هنا: إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم، وقوله: {مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد البرهان لهم، والترهيب بأشد ما يكون، وأعظم ما تجوزه العقول، وتقدر الأفهام، وهو: رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة عليهم. وقوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} بأن تدارككم بلطفه، ورحمته، حتى أظهرتم التوبة لخسرتم.
والفضل: الزيادة. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة، والخير، والإفضال: الإحسان. انتهى. والخسران: النقصان، وقد تقدم تفسيره. والسبت في أصل اللغة: القطع؛ لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل. وقيل: هو: مأخوذ من السبوت، وهو الراحة، والدعة.
وقال في الكشاف: السبت مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت يوم السبت. انتهى.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين: ففرقة اعتدت في السبت: أي: جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه، فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين. ففرقة جاهرت بالنهي، واعتزلت، وفرقة لم توافق المعتدين، ولا صادوا معهم، لكنهم جالسوهم، ولم يجاهروهم بالنهي، ولا اعتزلوا عنهم، فمسخهم الله جميعاً، ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط، وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة، وعاندوا أنبياءهم، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم، وسخف عقولهم، وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعبة من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم} [الأعراف: 163] فاحتالوا لصيدها، وحفروا الحفائر، وشقوا الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت، فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة. والخاسئ: المبعد، يقال: خسأته، فخسأ، وخسيء، وانخسأ: أبعدته، فبعد. ومنه قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] أي: مبعداً. وقوله: {اخسئوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] أي: تباعدوا تباعد سخط، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر. والمراد هنا: كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون، وخاسئين خبر آخر، وقيل: إنه صفة لقردة، والأوّل أظهر. واختلف في مرجع الضمير في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا} وفي قوله: {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} فقيل: العقوبة. وقيل: الأمة، وقيل: القرية. وقيل: القردة. وقيل الحيتان. والأول أظهر. والنكال: الزجر والعقاب، والنكل: القيد؛ لأنه يمنع صاحبه، ويقال للجام الدابة نكل؛ لأنه يمنعها. والموعظة: مأخوذة من الاتعاظ، والانزجار، والوعظ: التخويف.
وقال الخليل: الوعظ التذكير بالخير.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وكان بنو إسرائيل أسفل منه.
وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت، فليس بطور.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} قال: أي بجدّ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {واذكروا مَا فِيهِ} قال: اقرءوا ما في التوراة، واعملوا به.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال: لعلكم تنزعون عما أنتم عليه.
وأخرج ابن جرير عنه قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} أي: عرفتم {واعتدوا} يقول: اجترءوا في السبت بصيد السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: انقطع ذلك النسل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو: مثل ضربه الله لهم كقوله: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية، قال: أحلت لهم الحيتان، وحرّمت عليهم يوم السبت، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، فكان فيهم ثلاثة أصناف، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {خاسئين} قال: ذليلين.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {خاسئين} قال: صاغرين.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس {فجعلناها نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من القرى {وَمَا خَلْفَهَا} من القرى: {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير عنه: {فَجَعَلْنَاهَا} يعني الحيتان {نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} من الذنوب التي عملوا قبل وبعد.
وأخرج ابن جرير عنه: {فَجَعَلْنَاهَا} قال: جعلنا تلك العقوبة، وهي المسخة {نكالا} عقوبة {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي {وَمَا خَلْفَهَا} يقول: للذين كانوا معهم {وَمَوْعِظَةً} قال: تذكرة، وعبرة للمتقين.

.تفسير الآيات (67- 71):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قيل: إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدّم في التلاوة، ومؤخر في المعنى، على قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] ويجوز أن يكون قوله: {قتلتم} مقدّماً في النزول، ويكون الأمر بالذبح مؤخراً، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمر بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع، من دون ترتيب، ولامعية، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام، والبقرة اسم للأنثى، ويقال للذكر ثور، وقيل إنها تطلق عليهما، وأصله من البقر، وهو: الشق؛ لأنها تشق الأرض بالحرث، قال الأزهري: البقر اسم جنس، وجمعه باقر، وقد قرأ عكرمة، ويحيى بن يعمر: {إن * البقر تشابه عَلَيْنَا} وقوله: {هُزُواً} الهزو هنا: اللعب والسخرية.
وقد تقدم تفسيره. وإنما يفعل ذلك أهل الجهل؛ لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل. وقوله: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ} هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به، ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة، لأجزأهم ذبح بقرة من عُرْض البقر، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم كما سيأتي بيانه. والفارض: المسنة، ومعناه في اللغة: الواسع. قال في الكشاف: وكأنها سميت فارضاً؛ لأنها فرضت سنها أي: قطعتها وبلغت آخرها. انتهى. ويقال للشيء القديم: فارض، ومنه قول الراجز:
يَا ربَّ ذِي ضغن عَليَّ فَارِضٍ ** لَهُ قُرُو كَقُرُو الحَائِض

أي قدي. وقيل: الفارض: التي قد ولدت بطوناً كثيرة فيتسع جوفها، والبكر: الصغيرة التي لم تحمل، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل، وتطلق أيضاً على الأوّل من الأولاد، ومنه قول الراجز:
يَا بَكْر بَكرين وَيَا صُلْبَ الكْبِد ** أصْبَحْت مِني كَذِراعٍ من عَضُدْ

والعوان: المتوسطة بين سني الفارض والبكر، وهي التي قد ولدت بطناً، أو بطنين؛ ويقال: هي التي قد ولدت مرة بعد مرة، والإشارة بقوله: {بَيْنَ ذلك} إلى الفارض، والبكر، وهما: وإن كانتا مؤنثتين، فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور، كأنه قال: بين ذلك المذكور. وجاز دخول بين المقتضية لشيئين؛ لأن المذكور متعدد. وقوله: {فافعلوا} تجديد للأمر وتأكيد له، وزجر لهم عن التعنت، فلم ينفعهم ذلك، ولا نجع فيهم، بل رجعوا إلى طبيعتهم، وعادوا إلى مكرهم، واستمرّوا على عادتهم المألوفة، فقالوا: {ادع لَنَا رَبَّكَ}. واللون: واحد الألوان، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء. قال بعضهم: حتى قرنها، وظلفها.
وقال الحسن. وسعيد بن جبير: إنها كانت صفراء القرن. والظلف فقط، وهو: خلاف الظاهر. والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة.
وروى عن الحسن أن صفراء معناه سوداء، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو: أقبح الألوان أنه يسرّ الناظرين، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجزي على الأسود بوجه من الوجوه، فإنهم يقولون في وصف الأسود: حالك، وحلكوك، ودجوجى وغربيب. قال الكسائي: يقال: فقع لونها يفقع فقوعاً: إذا خلصت صفرته.
وقال في الكشاف: الفقوع أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه. ومعنى {تَسُرُّ الناظرين}: تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجاباً بها، واستحساناً للونها. قال وهب: كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها. ثم لم ينزعوا عن غوايتهم، ولا ارعووا من سفههم وجهلهم، بل عادوا إلى تعنتهم فقال: {ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هي إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} أي: أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلهم عليه، والامتثال لما أمروا به. والذلول: التي لم يذللها العمل، أي: هي غير مذللة بالعمل، ولا ريضة به. وقوله: {تُثِيرُ} في موضع رفع على الصفة لبقرة، أي: هي بقرة لا ذلول مثيرة، وكذلك قوله: {وَلاَ تَسْقِى الحرث} في محل رفع؛ لأنه وصف لها، أيّ ليست من النواضح التي يُسْنَى عليها لسقي الزروع، وحرف النفي الآخر توكيد للأوّل، أي هي: بقرة غير مذللة بالحرث، ولا بالنضح، ولهذا قال الحسن: كانت البقرة وحشية.
وقال قوم: إن قوله: {تثير} فعل مستأنف، والمعنى: إيجاب الحرث لها، والنضح بها. والأوّل أرجح؛ لأنها لو كانت مثيرة ساقية، لكانت مذللة ريضة، وقد نفى الله ذلك عنها. وقوله: {مُّسَلَّمَةٌ} مرتفع على أنه من أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مرتفعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي: مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة، والمسلَّمة: هي التي لا عيب فيها. وقيل: مسلمة من العمل، وهو ضعيف؛ لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها، والتأسيس خير من التأكيد، والإفادة أولى من الإعادة. والشية أصلها: وشِيَة حذفت الواو كما حذفت من يشي، وأصله يوشى، ونظيره الزنة، والعدة، والصلة، وهي مأخوذة من وشي الثوب: إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشى في وجهه، وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب، ولا يخالج سامعها شك، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه، أقصروا من غوايتهم، وانتبهوا من رقدتهم، وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم {قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق} أي: أوضحت لنا الوصف، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات {فَذَبَحُوهَا} وامتثلوا الأمر الذي كان يسراً، فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} ما أمروا به؛ لما وقع منهم من التثبط، والتعنت، وعدم المبادرة.
فكان ذلك مظنة للاستبعاد، ومحلا للمجئ بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم. وقيل: إنهم ما كادوا يفعلون؛ لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف، وقيل: لارتفاع ثمنها. وقيل: لخوف انكشاف أمر المقتول، والأوّل أرجح.
وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل.
وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين: الأوّل: أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به، لا من باب النسخ، وبين البابين بَوْن بعيد كما هو مقرر في علم الأصول.
الثاني: أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عُرْض البقر فيذبحونها، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان، والصفراء، ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم، وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها، ويديرون الرأي بينهم في أمرها، ثم يوردونها، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن عبيدة السلماني؛ قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدّعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى، فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} الآية، قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدّدوا، فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها فضربوه ببعضها، فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه، ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً، ولم يورّث قاتل بعده.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب: «من عاش بعد الموت» عن ابن عباس؛ أن القتيل وجد بين قريتين؛ وأن البقرة كانت لرجل كان يبرّ أباه، فاشتروها بوزنها ذهباً.
وأخرج ابن جرير، عنه، نحواً من ذلك، ولم يذكر ما تقدم في البقرة.
وقد روى في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة.
وأخرج البزار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم، أو لأجزأت عنهم».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن بني إسرائيل قالوا: {وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ} ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر، فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا، فشدّد الله عليهم».
وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة؛ يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه ابن جرير، عن ابن جريج يرفعه.
وأخرجه ابن جرير، عن قتادة يرفعه أيضاً، وهذه الثلاثة مرسلة.
وأخرج نحوه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس؛ قال:
الفارض الهرمة، والبكر الصغيرة، والعوان النصف.
وأخرج نحوه عن مجاهد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} قال: بين الصغيرة، والكبيرة، وهي أقوى ما يكون، وأحسنه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} قال: شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله: {صَفْرَاء} قال: صفراء الظلف {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} قال: صافي.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} أي: صاف {تَسُرُّ الناظرين} أي: تعجب.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: {صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} قال: سوداء شديدة السواد.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {لاَّ ذَلُولٌ} أي: لم يذلها العمل {تُثِيرُ الأرض} يعني ليست بذلول، فتثير الأرض {وَلاَ تَسْقِى الحرث} يقول: ولا تعمل في الحرث {مُّسَلَّمَةٌ} قال: من العيوب.
وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وقال: {لأشية فِيهَا} لا بياض فيها ولا سواد.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس {مُّسَلَّمَةٌ} لا عوار فيها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: {قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق} قالوا: الآن بينت لنا {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها.